يكشف برنامج “الأدب المصري القديم كتعبير ثقافي” والذي تقوم بتدريسه الدكتورة فايزة هيكل، أستاذ علم الأثار بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، حقيقة هامة وهي أن العديد من الممارسات الموجودة في العصر الحديث بمصر تعود إلى المصريين القدماء بدءا من الجنازات وطرق الزراعة والغزل إلى القص والتعبيرات العامية.
وفايزة هيكل، التي تم تكريمها مؤخرا من قبل جمعية استكشاف مصر ومقرها بريطانيا ووزارة الأثار المصرية في يوم المرأة العالمي لنجاحها وتألقها كعالمة مصريات رائدة، قالت إن هذا يوضح كيف أن العادات والتقاليد متواصلة وكيف أن الطبيعة البشرية من الممكن أن تكون ثابتة. ولفتت إلى أن الملفت للنظر بالنسبة للأدب المصري القديم هو انتقال الثقافة – ما تركه قدماء المصريين لنا، وهو جوهر ما تدرسه هيكل في محاضراتها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
ففي برنامج “الأدب المصري القديم كتعبير ثقافي” لا تقوم هيكل وطلابها بمجرد إلقاء النظر على تاريخ وترجمة الأدب القديم بل يتعدى ذلك إلى ما تكشف عنه النصوص، عبر الشكل والمحتوى، عن طبيعة قدماء المصريين.
ووفقاً لفايزة، كان لدى القدماء المصريين أدب مكتوب بشكل جيد للغاية ومدروس بعناية فائقة من قبل متخصصين. وبتطور الثقافة الأدبية في مصر القديمة، ظهرت أنواع مختلفة ومتميزة من القصص التي تخدم أغراضاً مختلفة. وأشارت إلى أن المثير للاهتمام هو أن مجالات الكتابة الأدبية المستخدمة حالياً في الأدب المعاصر كانت موجودة في مصر القديمة وأنها كانت تستخدم بنفس الطريقة التي نستخدمها بها الأن. فكان هناك الشعر الذي يتناول الحب، وهناك الحكايات الخيالية وقصص المغامرات للترفيه وكذلك قصص الأساطير والخرافات للتحذير وتلقين الدروس.
وينطبق هذا بشكل خاص على عصر الدولة الوسطى (من 2000 ق.م إلى 1700 ق.م) حيث شهدت الحركة الأدبية تطورا كبيراً وكانت النصوص الأدبية المتنوعة والعديدة تعتبر لغة المصريين القدماء. وتوضح هيكل أن “الدولة الوسطى كان لديها كل شيء. كان لديها كل المجالات الأدبية التي لدينا الأن”.
وتعتبر “قصة سنوحي” أحدى النصوص الأدبية المعروفة من مصر القديمة، وهي قصة رجل فر من مصر بعد سماعه خبر موت الملك واندمج داخل القبائل البدوية. تشمل قصة سنوحي، والتي يقوم فيها سنوحي بدور الراوي، العديد من المجالات الادبية منها النثر السردي والسيرة الذاتية والشعر والدعاية للملك والكتابة الدينية.
وقالت “بقراءة السطور وما بين السطور تستطيع أن يكون لديك صورة نابضة وحية لما كانت عليه الحياة الأدبية والمجتمع في مصر القديمة في الوقت الذي كتب فيه هذا العمل. و قصة سنوحي لا تسلط الضوء على مصر القديمة فحسب ولكن على دول الجوار أيضاً، فهناك العديد من المقارنات بين المجتمعات والتقاليد والسلوكيات. فعن طريق فحص النصوص الأدبية مثل “قصة سنوحي” بعين ثاقبة، يمكن رسم صورة كاملة للحياة في مصر القديمة بطريقة لم تنجح فيها دراسة أي أثار أخرى.” فمن خلال مثل هذه النصوص استطاع طلاب هيكل أن يقدروا ويدركوا حقيقة أن العديد من الممارسات في مصر الحديثة لها جذور في العصور القديمة.
وكمثال على ذلك، أشارت فايزة هيكل إلى الممارسات الجنائزية التي يظهر فيها تأثير مصر القديمة في التقاليد واللغة المستخدمة.. وتقول “الكثير من الأشياء التي نقوم بها في تقاليدنا الجنائزية في مصر غير مرتبطة بالدين على الإطلاق. ففي الواقع إن بعض من هذه التقاليد قد انتقلت للغرب. ففي مراسم الدفن كان المصريون القدماء يقدمون الطعام للمتوفي كزاد لهم في الحياة الأخرة، كما أشارت النصوص أن المصريون القدماء هم أصحاب تقليد تقديم الزهور والنباتات رمزاً لاستمرار عجلة الحياة والخلود. ففي 1996 تم العثور على تابوت بوادي الملوك به بقايا لأكاليل من الزهور استخدمت في جنازات ملكية. واليوم أصبح استخدام الزهور في الجنازات تقليد يتبع في العالم كله على اختلاف الثقافات والأديان.
وتوضح هيكل أيضاً أنه في اللغة المصرية القديمة يوجد فعل معين يستخدم للإشارة إلى زيارة الموتى وهو حرفياً يعني الصعود ودخول المقابر وهو “طلع.” واليوم يستخدم المصريون هذه العبارة نفسها بعد ترجمتها إلى اللغة العربية. تقول “عبارات مثل هذه هي دليل أخر على استمراريتنا مع الماضي. لقد ترجمنا طريقة تفكيرهم”.
كما أشارت كذلك إلى نص قديم استخدم فيه الكاتب العبارة الأتية: عاشوا معاً مثل العسل والسمن. “هذه العبارة واضحة بالنسبة لنا كمصريين، ولكنها ربما لا تكون مفهومة بالنسبة لعالم المصريات الأجنبي. أحب الاستعارات دائماً لأن التعبيرات عادة ما تأتي من البيئة التي تعيش بها. عادة ما تكون محلية”.
ووفقا لفايزة، فإن هناك عبارة شائعة تستخدم في مصر اليوم وهي أن التعليم مثل قارب في نهر، وهو يعني أنه سيأخذك بعيداً. هذه العبارة تشير تحديداً إلى التأثير طويل الأمد للنيل وارتباطه بالسفر والسرعة. تقول “طلابي عادة ما يكونوا منتبهين لمثل هذه العبارات ويمكنهم اكتشاف هذه العلاقة بأنفسهم. فهم يتذكرون أن ’هذا ما قالته لي والدتي أو ما قاله لي والدي‘ ويدركون الصلة. هذا يجعل المحاضرة أكثر حيوية”.
ومن خلال مشوارها المهني الذي بلغ 40 عاماً، دأبت هيكل، عبر دراستها وأبحاثها، على كشف الصلة بيننا وبين الثقافات القديمة وهو ما تأمل أن تنقله لطلابها.. تقول “إنه من المثير للاهتمام أن نرى أن البشر لم يتغيروا – المشاعر والمخاوف والتطلعات والحب والكره. المشاعر الانسانية كما هي تماما. الذي تغير هو استخدام التكنولوجيا ولكن الانسان لم يتغير وربما لن يتغير أبداً”.