بقلم: د. علي محمد فخرو
إبراز أزمة الديموقراطية في مواطنها الغربية، وإظهار العقبات التي سيواجهها إنتقال الوطن العربي من حالات الاستبداد التي عاشها ويعيشها هذا الوطن إلى نظام ديموقراطي، لا يعنيان إرتكاب الخطأ المميت بالقول بأن الديموقراطية لا تصلح لنا كمجتمعات، وكأمة.
ذلك أن حاجتنا لنظام ديموقراطي هي ضرورة حضارية وجودية وهي أحد أهم المفاتيح لحلً الكثير من مشاكلنا، وبالتالي فهي ليست خياراً مطروحاً نأخذه أو نتركه.
لكن هناك أسئلة مفصلية يتعيًّن علينا طرحها والإجابة عليها إذا كنا نريد أن نتجنًّب مطبًّات التقليد الأعمي، أو القبول بالمظاهر على حساب الجوهر، أو التفصيل على مقاس أوضاع هذا النظام العربي التسلطي أو ذاك.
السؤال الأول: “هل حقاً أننا نحتاج إلى تبنًّي الأنموذج الديموقراطي الغربي، بكل منطلقاته الفكرية وبكل ممارساته في الواقع، واعتباره الأنموذج الأفضل لكل مجتمعات البشر، وذلك بالرًّغم من أنه كان حصيلة صيرورة تاريخية سياسية اقتصادية إجتماعية أسًست وتطورت حسب حاجات وظروف مجتمعات الغرب المختلفة عبر أربعة قرون من الحروب والثورات والصًّراعات الدينية والطبقية وبممارسات الاستعمار والعبودية لمجتمعات الغير وبشرها؟”
دليل خصوصيتها الغربية هو ربط البعض للديموقراطية بقيم الحداثة الليبرالية الكلاسيكية، التي هي تحت المراجعة حالياً، واشتراط البعض الآخر تعايشها مع الرأسمالية، التي هي في أزمة، واستعمال البعض لها مؤخراً بصور عنصرية انتهازية في أشكال من الحراكات الشعبوية، التي تمثًّل خطراً على مستقبل الديموقراطية نفسها إلخ.. عبر التاريخ الطويل من التقلبات والمراجعات.
وكما أسلفنا في مقال سابق تجري الآن في الغرب مراجعة للموضوع الديموقراطي برمًّته، خصوصاً بشأن فصله التاريخي الخاطئ عن موضوع العدالة الإجتماعية الإنسانية، الأمر الذي أضعف في الديموقراطية الغربية أهم مكوًّن قيمي روحي: العدالة.
والسؤال الثاني: “هل يمكن الإنتقال إلى الديموقراطية دون تحقق خطوات أساسية تهيًّئ لقبولها من قبل المجتمعات وتجذرها في وجدان ساكنيها؟” وهي خطوات ستحتاج، لكي تتحقق، لقوى مجتمعية فاعلة تناضل من أجلها.
من بين تلك الخطوات الأهمية القصوى لوجود تعددية في الحياة السياسية معبُّر عنها بوجود أحزاب سياسية مستقلة تنظيماً ومالاً، غير مخترقة أو مهمًّشة ، ديموقراطية في تركيبتها وقراراتها وتبادل السلطة القيادية الدورية فيها ، وتحمل مشروعاً نهضوياً تعرضه بصورة علنية، وتشارك وتتنافس في انتخابات حرًّة نزيهة، وتتبادل دورياً إدارة الحكم مع بقية الأحزاب الأخرى من خلال إرادة عامة حرة تعبًّر عن نفسها بشتًّى الطرق ، بما فيها الإنتخابات الحرًّة النزيهة.
ينطبق الأمر نفسه على وجود تعددية نقابية ومهنية وأهلية وبالأخص شبابية ونسائية.
في قمة أولويات جميع تلك التنظيمات المدنية نشر الثقافة الديموقراطية، وتدريب أعضائها على ممارسة الديموقراطية، والنضال ضدُّ كل مساس بأية منجزات ديموقراطية في كل المجالات والسًّاحات.
بناء تلك الحاملة المجتمعية للمشروع الديموقراطي المستقبلي يجب اعطاءه أولوية قصوى، ولا يمكن أن تتحقق تلك الخطوة إلاً إذا أنخرط الملايين من الشباب والشابات العرب في تلك التنظيمات كأعضاء فاعلين ومحاربين ضدُّ أي إنحراف ترتكبه قيادات تلك التنظيمات.
ولن يكفي أن يقتصر جهد الشباب على التأييد والمناصرة المعنوية فقط ذلك أن حركة المجتمع المدني لن تكون نشطة ومؤثرة ومسموعة الكلمة عند سلطات الدولة إلاً بوجود الملايين الفاعلين الملتزمين في كل تنظيمات المجتمع المدني، للنضال من أجل الحقوق الخاصة بهم ولتبنًّي النضال من أجل الحقوق الخاصة بكل فئات المجتمع.
عند ذاك يصبح الإنتقال إلى الديموقراطية طريقاً مفتوحاً، ينطبق عليه المثل الإسباني” بأن الطرقات لا تتوفر تلقائياً، وإنما تشقًّ بفعل سير السائرين”.
إذن الخطوة الأولى تتمثل في عودة الحياة لكل مؤسسات المجتمع المدني من خلال إجتذاب نشط للملايين، وعلى الأخص الشباب، للإلتحاق بعضويتها وإخراجها من هزالها وهامشيتها، وبعد ذلك من خلال هذا الدم الجديد المتجدًد النضال لدمقرطة تلك المؤسسات، لنصل في النهاية لمنظمات مجتمع مدني ديموقراطية تناضل من أجل قيام ديموقراطية حقيقية وذلك من خلال الدخول في معارك ضد كلً أعدائها سواء في الخارج أو في داخل سلطة الدولة أو في داخل المجتمعات نفسها.
وهذا لا يعني بالضرورة التصادم مع الدولة وإنما العمل على إقناعها حيث أمكن أو الضغط على جهات الممانعة فيها حيث يجب. ذلك أن إضعاف الدولة سيوازية إضعاف المجتمع المدني.
لن ندخل في تفاضيل ضرورة توفر العوامل الكثيرة الأخرى الضرورية من أجل إحياء وتنشيط وتقوية المجتمع المدني من مثل وجود مشروع تثقيف وتربية عن أهمية وواجبات المجتمع المدني، أو من مثل تحقق درجة معقولة من التنمية الاقتصادية والإجتماعية.
أو من مثل إلحاق هزيمة بثقافة الخضوع والخنوع والتبعية التي هيمنت على علاقات المجتمعات العربية وأنظمة الحكم عبر فرون طويلة من الإستبداد، أو من مثل وجود مستوى معقول من حماية الحقوق الإنسانية من قبل الدولة والمجتمع والالتزام بممارستها، أو من مثل وجود قضاء مستقل عادل يحمي مؤسسات المجتمع المدني ويحمي الكل من تجاوزات السلطة.
واكتفينا في هذا المقال بالتركيز على ما نعتبره مدخلاً اساسياً مفصلياً للبدئ ببناء المجتمع المدني القوى الذي بدونه سيكون الحديث عن الوصول إلى الديموقراطية الحقيقية عبارة عن أحلام يقظة وينبغيات لا تتحقق في أرض الواقع إلاً في صورة مشوُهة كسيحة،
نقولها مرة أخرى بأن النشاط من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، التي يستعملها الشباب على نطاق واسع، ضروري من أجل الإقناع والتجييش للديموقراطية لكن الحسم لن يكون إلاً من خلال وجود مؤسسات مجتمع مدني جماهيرية نشطة وفاعلة تنجح في تحقيق حقوق ديموقراطية فرعية لأعضائها وأتباعها.
وذلك تمهيداً لتحقيق حقوق الكل الديموقراطية من خلال الوصول إلى الهدف النهائي: الديموقراطية العربية السياسية والإقتصادية والأجتماعية العادلة.