سارة السهيل
تبقي جسور الثقافة هي المعين النابض بالحياة لانماء الحضارات الانسانية والحفاظ علي حياتها من الاندثار. هذا المعني قد تجلي مؤخرا في اهداء مكتبة الاسكندرية 1500 عنوان كتاب الي العراق، وتحديدا الي مكتبة آشور بانيبال التابعة لجامعة الموصل.
وكمثقفة عربية عراقية، استقبلت بفرحة غامرة وشعور عظيم بالأمل في انتصار الثقافة والحضارة علي ظلمات الدواعش وضلالة الجهل والجهالة، مشهد تسلم السفير حبيب الصدر سفير العراق في مصر اهداء هذه الكتب خلال الحفل الذي أقيم بالنادي الدبلوماسي المصري في حضور مسئولين من الخارجية المصرية ومكتبة الإسكندرية وشخصيات أدبية وصحفية بارزة.
ان تعاون مصر، عبر مكتبة الاسكندرية، مع العراق لاحياء مكتبة آشور بانيبال، بعد التدمير الذي تعرضت له على يد داعش، يحمل رسالة عظيمة، وهي ان مصر حريصة كل الحرص علي الحفاظ علي التراث والثقافة العراقية، ايمانا منها ان هذا التراث العراقي، يمثل قيمة حضارية لا نظير له في العالم، وان الحفاظ عليه يمثل حفاظا علي الحضارة العراقية، لكل الاجيال في العراق والعالم.
كما يمثل هذا الاحياء لمكتبة آشور بانيبال، رمزا مهما للحفاظ علي المكونات الثقافية العراقية، وسط ركام التفتت السياسي والمذهبي، وان المكون الثقافي والحضاري للعراق كفيل بالحفاظ علي شعب العراق من التفتت والتشرذم.
إن إحياء مشروع ثقافي في مكانة مكتبة آشور، يمثل احياءا للشعب العراقي من سباته، ومن تشظيه جراء الفتن الطائفية، كي يستنهض همته، ويتجاوز محنته الراهنة.
إن الاهداء من مكتبة الاسكندرية، كمنارة علمية ومعرفية عالمية، يعكس حقيقة كبري أخري، وهي ان هذا الاهداء، كما ذكر خالد عزب، رئيس قطاع المشروعات والخدمات المركزية بمكتبة الإسكندرية، جري في اطار حملة دولية وعربية لدعم المشروع الذي تقوده جامعة الموصل لإحياء مكتبة آشور بانيبال.
تاريخها القديم
ان هذا يعني ان العالمين العربي والدولي، يولي اهتماما كبيرا باحياء مكتبة آشور، نظرا لمكانتها الحضارية القديمة، فهذه المكتبة التي يطلق عليها “المكتبة الملكية”، تعد من أهم المكتبات في الحضارات القديمة، لكونها المكتبة القومية للعراق القديم في القرن السابع قبل الميلاد.
اقامها الملك آشور بانيبال (669-626 ق.م.) في مدينة نينوى عاصمة الامبراطورية الاشورية الاخيرة، التي امتدت من شمال مصر وفلسطين وسوريا وحتى بلاد الميديين في غرب العراق القديم.
ويقدر عدد محتوياتها بحوالي مائة الف رقيم طيني، ونسبة كبيرة منها باللغة الأكدية، بالاضافة الى عدد من المخطوطات الاشورية والارامية وغيرها على لفائف البردي والرق. وترجع اهميتها الى ان الاشوريين بدأوا بكتابة التاريخ على شكل حوليات تعود لعهود بعض من ملوكهم البارزين، وقد اتضح من خلال الدراسات الاثارية ان معظم ما سجل في هذه الحوليات كان صحيحا.
وظهرت اول دراسة عن هذه المكتبة باللغة العربية للباحث الجليل كوركيس عواد، في كتابه المتميز (خزائن الكتب القديمة في العراق) الذي صدر في عام 1948.
حريق المكتبة
بعد تدمير نينوى في 612 قبل الميلاد، نتيجة تحالف بين البابليين و السكوثيين والميديين، وهم شعب إيراني قديم، يعتقد أنه وأثناء اضرام النيران في القصر، اندلع حريق هائل طال المكتبة، مما أدى إلى تسخين ألواح الطين، و”انصهارها” بدرجة كبيرة، إلا أنه ظلت بعض من بقايا هذه الألواح.
وتم العثور على بعض البقايا المتعلقة بالمكتبة في موقع حفر أثري في كيونجيك (نينوى القديمة وعاصمة آشوريا)، والتي بنيت عليها مدينة نينوى الحالية في شمال بلاد الرافدين، ونتيجة للحفظ والاستخدام السيئ لبعض من بقايا المكتبة، لم يتمكن علماء الآثار من ترميم معظمها. وأغلب اكتشافات الموقع تمت من قبل الرحّالة وعالم الآثار البريطاني أوستن هنري لايارد، حيث تم نقل معظمها إلى بريطانيا وتُعرض بعض من بقايا المكتبة في المتحف البريطاني في لندن.
احتوت الرُقم الطينيه والالواح، مواضيع تعلقت بالتشريعات والمراسلات الخارجية والتعاقدات والإعلانات الأرستقراطية، والمسائل المالية وتراتيل لآلهة مختلفة، اضافه الى الواح اختصت بالطب والفلك والأدب.
وضمن هذه النصوص في مكتبة اشور بانيبال نجد عشرة اعمال ادبية إيقاعية معبرة، مثل الملاحم والأساطير، هي من بقي سليما ولم يصبه التلف، ومنها ملحمة جلجامش، وهي تحفة من الشعر البابلي القديم، وايضا قصة الخلق البابلية ( إنوما إليش )، وأُسطورة أدَبا أو آدابا (بالإنكليزية: Adapa)، وقصص، مثل قصه الرجل الفقير من نيبور.
المكتبة الحديثة
إن مكتبة آشور بانيبال الحديثة، أنشئت في عام 2001، لإحياء مكتبة اشور بانيبال التاريخية، حيث تعد أقدم مكتبة في تاريخ الإنسانية، لتكون متخصصة بعلم الآثار والدراسات المسمارية.
وخطط لها أن تكون اكبر مكتبة من نوعها في الشرق الأوسط، يكون إعدادها علميا ووفق مواصفات المكتبات الحديثة، بتجهيزاتها وبحجم ونوعية الخدمات التي تقدمها للباحثين والمستفيدين منها، ويضم المشروع معهدا متخصصا بالدراسات المسمارية، ليكون مركزا علميا بحثيا في تلك الدراسات. وفي حينها تكفلت الحكومة العراقية، بتكاليف ذلك المشروع الضخم، وكانت أولى خطواته تحديد موقعه، وكان لابد من أن يكون في موطن الحضارة الآشورية في محافظة نينوى/ مدينة الموصل، واختير المكان داخل الحرم الجامعي تحديدا باعتبارها الجهة العلمية الرئيسية المساهمة في المشروع، وقام المكتب الاستشاري الهندسي لجامعة الموصل، بإعداد تصاميم متعددة لمبنى المكتبة، واختير واحد منها مستوحى من العمارة الآشورية ليتماشى التصميم المعماري مع هدف المكتبة.
علاقات حضارية
أعاد اهداء مكتبة الاسكندرية 1500 عنوان كتاب لمكتبة آشور بانيبال، للذاكرة الثقافية عمق العلاقات الحضارية والثقافية بين مصر والعراق، التي تعود في تجذرها وعمقها الي عصور ما قبل التاريخ، وتبادلهما التجاري ومن ثم انتقال بعض العادات والتقاليد الحضارية المشتركة بينهما.
لقد شهدت العلاقة بين حضارة مصر الفرعونية وحضارة بلاد الرافدين، تأثيرات ثقافية مهمة، رصدها الباحثون في الآثار والتاريخ وسجلوا العديد من مظاهر التفاعل الحضاري بينهما، ومن أمثلة ذلك:
ان بلاد الرافدين أخذت نظام الهرم المدرج فى بناء معابدها عن مصر، في المقابل ان مصر أخذت استخدام الأختام عن بلاد الرافدين. كما أخذت مصر فن رسم الحيوانات المجنحة عن بلاد الرافدين… وغيرها من مظاهر التفاعل الحضاري.
أخيرا..
من المفيد أن أستعير، مقولة الدكتور علي الجبوري، أستاذ الآشوريات بكلية الآثار في جامعة الموصل، بالحاجة الماسة لمكتبة آشور للدعم المادي لاقتناء أمهات الكتب والدوريات العالمية، ليستفيد منها طلاب كلية الآثار والدراسات المسمارية. وأدعو كل مثقف في العالم مهتم بالتراث الانساني والحضاري ان يدعم مكتبة آشور بما يستطيع من دعم مالي او علمي، احياءا للتراث الحضاري والثقافي لهذه المكتبة لتظل كسابق عهدها منارة للعمل والمعرفة.