في هذا الأسبوع، وإذ نستذكر موت بطل الأمة العربية وزعيم حلمها الكبير المرحوم الرئيس جمال عبدالناصر منذ خمسين سنة، فانه من الحكمة والتقديس لهذه الذكرى الأليمة أن لا نجعلها مقتصرة على الشخصنة وعلى سرد المنجزات ولا على الإنغماس في نقد الأخطاء التي ارتكبت باسم التجربة الناصرية.
طبعاً، كان الرئيس ذا شخصية كاريزمية، بقدرات خطابية متميزة وبتفاعل نشط مبهر مع الملايين الذين أحبوه ووثقوا فيه وساندوه، وبضمير حسًاس تجاه عالم الفقراء والمهمًشين والمظلومين، وبعفًة تجاه المال العام، وهو الذي مات شبه معدم وشبه متصوًف.
وطبعاً كانت هناك إنجازات هائلة من مثل تأميم قناة السويس، وبناء السد العالي العظيم، والقضاء على الإقطاع، ومجانية التعليم في كل مراحله، واحتضان مئات الآلاف من شباب العرب والمسلمين في جامعات مصر، وإسناد كل حركة تحررية في وطنه العربي وفي العالمين الإسلامي والثالث.
والتزامه القومي الكامل بالوقوف في وجه الكيان الصهيوني، وبناء قاعدة صناعية كبيرة حديثة في القطر المصري، وفي تحقيق أول وحدة طوعية واعدة فيما بين مصر وسوريا، وغير ذلك من المنجزات الكثيرة التي استفاد منها وساندها الوطن العربي كلًّه.
وارتكبت الكثير من الأخطاء أثناء مسيرة تفعيل ذلك الحلم الهائل في واقع الحياة العربية عبر الوطن العربي كله. فالأخطاء كانت وستظل ملازمة للطموحات الكبيرة.
كل ذلك هو تاريخ حافل ، له ماله، وعليه ماعليه، وسيكون دروساً وعبر لأجيال كثيرة قادمة. أما ما نحتاج إليه الآن فهو ربط وتفاعل ذلك التاريخ باللحظة الخطرة المعقدة التي تعيشها الأمة العربيةحالياً.
دعنا نركز على بضع جوانب نعتبرها محورية. أولاً: بعد موت قائد تلك الحركة العروبية القومية التقدمية التحررية الكبرى، والتي هيمنت على الحياة العربية إبًان الخمسينات والستينات من القرن الماضي، تراجع المد القومي وتكالبت على أضعافه في الواقع وفي الذاكرة الجمعية العربية كل قوى الاستعمار والصهيونية والكثير من القوى الرجعية الخائفة من مكوناته التقدمية والوحدوية. وصعدت شعارات الخلاص القطري والتركيز على الوطني المحلًّي بعيداً عن مشاكل وهموم الأمة.
لكن، وبعد مرور خمسين سنة على التوجًّه القطري فشل ذلك التوجًّه فشلاً ذريعاً في انتقال أيً قطر عربي إلى حالة التنمية الشاملة المستدامة في الإقتصاد والاجتماع والثقافة وفي حماية أي قطر من تدخُّلات واستباحة الخارج الاستعماري الصهيوني. وتشهد الأوضاع المأساوية التي يعيشها الوطن العربي كلًه حالياً على الفشل الذريع لتعايش أي قطر عربي بعيداً عن أمته العربية ووطنه العربي الكبير.
ثانياً: يثبت يوماً بعد يوم، وفاجعة بعد فاجعة ، وهجمة استعمارية أميركية – صهيونية بعد هجمة، وتصرفاً قطرياً خاطئاً بعد تصُرف، أن الطريق الوحيد لهذه الأمة، والذي سيخرجها من الضعف والهوان إلى القوة والمنعة ومن التخلف إلى النهوض، هو طريق وحدتها كأمة وكوطن.
ولذلك فهذا الطريق، طريق وحدة النضال والمصير والأهداف الكبرى القومية المشتركة، والذي ناضل الرئيس الراحل من أجل السًير فيه، آن أوان تكملة السًير فيه من خلال مراجعة منهجيات تحقق أهدافه في الواقع العربي المتغيَر الجديد البالغ التعقيد من جهة، ومن خلال تجميع وتنظيم كل القوى المؤمنة بضرورة الرجوع إليه من جهة أخرى.
ثالثاً: هذا تحدًّ وهدف مشروع مطروح على القوى السياسية المدنية العربية المستقلة عن توجيهات وهيمنة أية جهة رسمية داخلية أو خارجية لمناقشته وإغنائه وتحويله إلى استراتيجية نضالية قومية تقوم بها كتلة تاريخية عربية، مكونة من أحزاب وجمعيات مهنية وأهلية ونسائية ونقابات عمالية وشخصيات نضالية مستقلة.
وإذا أريد لهذه الاستراتيجية أن تنجح في تجييش الملايين، وعلى الأخص الشباب والشابات منهم، وفي جعل الاستراتيجية جزءاً من حياتهم العامة، فمن الضروري أن يرتبط شعار التوحٌّد العربي مع شعارات الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والإستقلال القومي والوطني كحدًّ أدنى ليكون منطلقاً لإحداث تنمية شاملة مستدامة تطال أرض العرب كلًّها.
جاء الوقت لترك مواجهة التحديات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، فقد ثبت اٌلأقتصار على مواجهتها منفردة ومتفرقة وبقوى متناثرة لن ينقل العرب إلى مجرى نهر العصر الحضاري المتدفًّق من حولنا.